يأتي الربيع فيتغير وجه الأرض، وتبزغ الزنابق والزهور، ويخرج الشعراء من شرنقة الشتاء ليملأوا الدنيا صخبا وغناء. فهذا هو صلاح جاهين يبشرنا بأن "الشجر الناشف بقى ورور.. والطير بقى لعبي ومتهور".. في اشارة الى أن الربيع هو موسم الحب والغزل عند كل أنواع المخلوقات. فيما يحاول البعض تذكيرنا بواقعية أن الربيع هو موسم رياح الخماسين المتربة فيقول صديقي الفنان هشام السلاموني الذي زاملني في كلية الطب : احنا شباب منافق.. انما عاوزين نعيِّد.. الطقس مش موافق.. واحنا بنقول دا جيد.. بنغني بدون لزوم.. واحنا متأكدين.. ان جه الربيع تقوم.. رياح الخماسين ".

لكن يظل الربيع موسما للبهجة والتفاؤل، فهو يذكرنا أن حبة القمح لاتموت عندما تسقط وتدفن في التراب، بل هي بداية حياة جديدة تنتج فيها سنابل ممتلئة بقمح وافر خمسون، وستون، و مائة. وهو فصل الزهور الملونة التي تجذب النحل والفراشات بألوانها الزاهية وروائحها الزكية، لكي تكتمل دورة حياتها من اخصاب واثمار وحياة لمخلوقات أخرى.

وفي الربيع تبدأ المشاعر في التحول الى الحب، ويعلل الشعراء خلال العصور هذه الفورة في المشاعر العاطفية المرتبطة بالربيع بالشرارة التي ترسلها براعم الأزهار وعصارة النباتات الصاعدة الى قمم الأشجار، ولكن العلماء أخيرا بدأوا في الاقرار بأن الحب والشوق والاخلاص وكل هذه الأحاسيس النبيلة تعتمد في الأساس على علم البيولوجي أكثر من كونها مشاعر وأفكار يتحكم فيها عقلنا الواعي.

يقرر العلماء أن الطريق الذي يبدأ بالمغازلة وينتهي باللقاء يمكن تفسيره بكيمياء الحب. وكيمياء الحب تغطي آخر الاكتشافات في كيمياء المخ، وتناقش كيف تؤثر الهورمونات على الرغبة، وهل تكون هذه الرغبة هي لهفة الحب من أول نظرة أم هى التوهج الدافيء لعلاقة طويلة الأجل.

ان التغير في الطقس، والدفء الذي يحل بالدنيا في فصل الربيع، حيث يزداد النهار طولا، ويعم الضوء الدنيا، يحدث شيئا صغيرا ولكنه هام جدا في المخ. اذ أن هذه التغيرات تؤثر على الغدة الرئيسة، وهي الغدة النخامية، التي تفرز عديدا من الهورمونات في الدم تكون رسلا لباقي أجزاء الجسم، وهذه الرسل الكيماوية تؤدي الى تغيرات أخرى في الجسم كله. بعض هذه التغيرات أكثر اهمية من غيرها مثل تلك التي تؤثر في أجهزة التكاثر وتعمل على تهيئتها لما خلقها الله له. ولأن للطبيعة حكمتها الاقتصادية، فان الهورمونات لاتعمل على الجسد فقط، ولكنها تعمل بتأثير ثانوي على سلوكيات وتصرفات الكائن الحي في سبيل تحسين فرص بقائه على قيد الحياة. ففي السناجب مثلا، تكون لهورموناتها التي تحدد بداية دورة التبويض للاناث رائحة يستطيع ذكورها التعرف عليهاعن طريق الشم. ومعظم الحيوانات الفقارية لديها أجهزة حساسة في الأنف للتعرف على وجود هذه الهورمونات عند الجنس الأخر. وتسمى هذه الروائح الهورمونية "فيرومون " وبها يتم التواصل بين هذه المخلوقات وبعضها. هذه الرائحة ليست نفاذة بالضرورة، فقد لا يعرف ذكر السنجاب مثلا أنه يشم أية رائحة، ولكن من الممكن أن لديه أعصاب في مكان ما من المخ تتأثر بهذه الرائحة ثم تؤثر في كيمياء الجسد ومن ثم في السلوكيات مباشرة.

يتسائل البعض: ولكن، اذا كان هذا هو الحال في السناجب،: هل يوجد مثل هذا "الفيرومون" عند الجنس البشري؟ كان من المعتقد حتى وقت قريب أن الجنين البشري هو وحده الذي يملك جهاز التعرف على هذه الرائحة المميزة في أنفه، وكان الاعتقاد أن هذا الجهاز يختفي بالتدريج قبل الولادة. وينمو هذا الجهاز الشمي عند الانواع المختلفة من الفقاريات مثل الطيور، والحيوانات، وبعض القردة. الا أنه، وفي العقدين الأخيرين فقط، وجد الباحثون دلائل قوية على أن الانسان أيضا يمتلك في واقع الأمر هذه القدرة العجيبة على الاحساس بتلك الرائحة، بل وأننا كبشر نتواصل بغير وعي منا عن طريق مؤثرات كيميائية محمولة في الهواء. ولعل هذا يفسر لماذا تمر النساء اللواتي يعشن معا بفترات الدورة الشهرية في نفس الوقت، اذ تنتظم دوراتهن الشهرية حسب احساسهن – عن طريق الشم – بهرمونات بعضهن البعض. ومع وجود بعض الشكوك عند بعض علماء البيولوجي في طريقةعمل هذه الأعصاب، وكيفية ذلك، فان البعض الآخر قد نجح في فصل هذه المواد الكيماوية "الفيرمون" وان لم تعلن كل النتائج على الملأ بعد.

عندما يقع انسان في الحب، يزيد معدل بعض المواد الموصلة في الأعصاب، وهي كيماويات مثل مادة الدوبامين، التي تعمل كمادة منشطة طبيعية تتميز بالقوة والاثارة، فتدفع القلب ليدق بمعدل أسرع. كما أن انخفاض مادة السيروتونين في المخ يدفع الانسان الى أن يركز في شخص واحد ورغبة واحدة. ولكن هذه الموصلات العصبية لها تأثير مؤقت فقط في بعض أنواع المخلوقات اذ بمجرد تنفصل تزاوجها بسرعة. ولكن في الانسان – وبعض أنواع الحيوانات الأخرى – تستمر الرغبة في الإبقاء على علاقة زوجية مستديمة، يتم فيها تربية الصغار واستثمار مزيد من الطاقة في الحفاظ على نوعية حياة طيبة لهم وللأسرة، فيما يرغب الطرفان في استمرار الحب للأبد.

إذن، فبعد مرور نشوة الحب الأولي لاتعتمد العلاقة بين الطرفين المحبين على الجهاز العصبي فقط، بل أيضا على الغدد الصماء التي أيضا الكيماويات في السيطرة على وظائف الجسم وهي هنا هورمونات وليست موصلات عصبية، وتستمر تأثيراتها لفترات أطول. والمؤثر الأول هنا هو الغدة النخامية، والتي يستقر موقعها قريبا من قاعدة المخ، حيث تفرز عديدا من المواد. واحدة من أهمها هي مادة الأوكسيتوسين، وهي المسئولة عن انقباضات الولادة وأيضا بداية افراز اللبن في الثدييات، ولكنها تلعب دورا في سلوكيات الترابط بين الأم والأطفال. وأيضا تظهر ارتفاعات في معدلاتها في الزوجين المحبين المرتبطين بعاطفة قوية. ويتم افرازها مع مادة الاندورفين، وهي مادة شبيهة بالمورفين، وتفرز طبيعيا لكي تعطي احساسا طيبا. ورغم أن دور هذه الكيماويات لم يعرف على وجه الدقة، الا أنها تؤثر على السلوك البشري محدثة احساسا بالسلام والاستقرار.

هرشة الأربع سنوات :

لكن من المؤسف أن هذا التأثير لا يستمر للأبد، ذلك أن تعود الجسم على هذه الهورمونات يزداد تدريجيا، بينما تضعف حساسيتنا لها. ولقد دللت الأبحاث أنه بعد 23 الى 48 شهرا لا يستطعي الزوجان الاعتماد طويلا على الأوكسيتوسين لكي يستمرا في الحب، وهنا تبرز قوى الطبيعة الكامنة التي تعتمد على أن ثلاث الى أربع سنوات هى فترة كافية لكي يزداد تماسك الطرفين المحبين – الزوجين – فيما يسمى بالعشرة، وبعد ذلك، ولكي يستمي الطرفان في الترابط والتحاب، فإن قوة العقل يجب أن تسود فوق رغبات الجسد. اذ يعتمد الزوجين لإستمرارية الحب على القيم والاهتمامات المشتركة، وكافة أنواع النشاطات التي تجعل متعتهما حية وقوية. اذ يجب أن يعرف كل طرف من طرفي العلاقة إهتمامات الطرف الآخر، ويظهر إهتمامه حتى بأدق التفاصيل التي قد تسعد شريكه، وقد يكون ذلك بتقديم باقة ورد أو الدعوة الى وجبة خاصة أو نزهة في مكان ما، مما يشعر الشخص بأنه مرغوب فيه وأن شريكه يرغب في اظهار تقديره له ويرغب في اسعاده.

ويبقي أن البشر في الربيع يشعرون بتغيرات عاطفية وعضوية، لأن زيادة كمية الضوء في نهار الربيع الطويل ينشِّط الغدة النخامية التي تؤدي بدورها الى زيادة افراز مجموعة فريدة من الهورمونات. فتتأثر أجساد البشر والطيور وبقية المخلوقات، كما تتأثر سلوكياتهم وعواطفهم، فيصبح الناس أكثر نشاطا، فتزداد الطاقة والرغبة في الحب، ولما لا؟ ف"الدنيا ربيع والجو بديع.. قفللي على كل المواضيع".

الدنيا ربيع.. والحب بديع