الأم .. ماما .. ارتبطت الأم بالطعام منذ اللحظات الأولى للطفل .. وينطق الطفل أول كلمة في طلب الطعام .. مم .. ومنها أصبح المم هو الكلمة المحببة لكل أم عندما تتحدث عن طعام طفلها .. وبعدها خرجت كلمة ماما .. أو مامي .. أو أمي .. وهي ذات الكلمة التي تطلق تقريبا على الأم في كل لغات العالم في تأكيد لارتباط الطعام بالأم في ذهن الطفل .. واذ كان الثدي هو مصدر اللبن وهو الطعام الأول للوليد فقد سمي Mammary gland  “مامري جلاند” أو الغدة اللبنية .. ويمكن ملاحظة وجود نفس حروف كلمة ماما في التسمية اللاتينية للثدي.

 

ويظل الطفل معتمدا على لبن أمه لفترة قد تطول الى سنتين أو تقصر عندما يعجز ثدي الأم عن تكملة تغذية الوليد فتلجأ الى ألبان  الأطفال الخارجية المكملة، وقد تضيف أغذية خارجية أخرى على فترات زمنية تتناسب مع القدرة الهضمية للطفل ومتطلبات نموه. ولا تغيب مساندة الأب عن هذه المنظومة الغذائية عادة اذ تلجأ الطبيعة لحيلة تطيل معها أمد هورمونات الحب بين الأبوين لفترة تصل الى 4 سنوات تكون كافية لكي يبدأ الطفل في الاستقلال النسبي عن الرعاية اللصيقة للوالدين ، ومع انخفاض معدل هورمونات الحب المشتعل تبدأ مشاعر الود والعشرة الصادقة والشراكة المخلصة في النمو بقوة بين الزوجين لتعويض هذا الانخفاض الهورموني .. ومعها يستمر الطفل تحت رعاية والدين محبين يرغبان في رؤية طفلهما في أحسن حال.. ويظل الطعام مطلبا أساسيا للطفل..

 

ويكبر الطفل وتظل الأم المصدر الأول والأخير للطعام .. فتتفنن في أصنافه وطبخ ما لذ وطاب مما يناسب مراحل النمو المختلفة، مع الحرص على اضافة كل المكونات الصحية اللازمة لتغذية سليمة .. وتساهم أمنا الطبيعة بحكمتها الفائقة في امداد الأم بالمكونات المفيدة لغذاء صحي سليم .. فتخرج الأرض من خضراواتها وفاكهتها ما يناسب ظروف وتقلبات أجواء الفصول واحتياجات الجسم البشري فيها .. ولنأخذ مثلا من بلادنا حيث يظهر نبات الملوخية في فصل الصيف فتصنع الأم منه غذاء مناسبا للجو الحار قريب من الحساء أو “الشوربة” .. كما أن باقي الخضراوات تكون سهلة الهضم والامتصاص وهو ما يناسب الجو الحار حيث تقل كمية الدم المتدفقة الى الجهاز الهضمي ، ويزيد تدفقها الى الأطراف والجلد لكي تزيد من معدل فقد الجسم للحرارة وهكذا يتم الحفاظ على الصحة والحيوية.. وفي نفس التوقيت تظهر الفواكه الغنية بالماء والسكريات لتعويض ما يفقد في العرق ، ولتدعيم امتصاص الملح من القناة الهضمية حيث لا يمتص الا في وجود السكريات والأحماض الأمينية .. وهو ما يعرفه إنسان بلادنا بالفطرة فيتناول مع البطيخ جبنا مالحا .. وقد يستعيض عن البطيخ بالعنب الذي يظهر صيفا أيضا.. وقس على ذلك اختلاف المحاصيل مع اختلاف الفصول في البلاد المختلفة .. والحكمة العبقرية المذهلة التي تظهر في عطاء الطبيعة في كل مكان في العالم واختلافه حسب اختلاف الطقس والموقع  الجغرافي. ومن المثير هنا أن نشير الى أن الأعشاب الطبية التي تظهر في مكان ما من العالم تعالج باقتدار الأمراض التي يصاب بها سكان نفس المنطقة، بينما لا تؤثر في هذه الأمراض نفس الأعشاب اذا جلبت من مكان آخر . والمعنى الملحوظ لهذا هو أن الطبيعة تهب سكان كل منطقة طعاما مناسبا لهم ليس بالضرورة يناسب سكان منطقة أخرى في العالم. ففي الاسكيمو تغلب الدهون على غذاء السكان وهم بحاجة اليه لغناه بالطاقة المطلوبة في الجو البارد هناك، بينما تغلب الخضراوات والفواكه المائية والحبو على طعام المناطق الاستوائية حيث يقل الاحتياج الى غذاء غني بالطاقة.

 

هذا هو دور الطبيعة الواهبة، وهو دور يستكمل بعمل الأم الرائع في المطبخ .. الذي يؤكد دورها في التغذية الصحية السليمة بدءا بلبن الثدي.. وظلت الأم تمارس هذا الدور بكل مسؤولية والتزام في وجبات مصنوعة من خيرات بلدها مما يراعي الاحياجات الطبيعية لأطفالها، حتى ظهرت بدعة المطاعم السريعة عابرة القارات التي تمد الطفل بغذاء عبارة عن نشويات مفرطة ودهون مركزة مع بروتينات لا يعلم الا الله مكوناتها الحقيقية. ومع ثورة الاعلانات واصرارها الدائم على عقل الطفل ومعدته ، تقلص دور الأم الأصيل وحل محلها دور الأم “ماكدونالدز” المتباهية بتمدد حجم الشطيرة وارتفاع عدد أدوارها حتى قارب ارتفاع مبني متوسط الحجم. وزاد في حجم المشكلة وجود التليفونات المحمولة في أيدي الصغار ، فأصبح قرار الالتجاء الى الأم “ماكدونالد” لا يخضع لرقابة من والدين يفاجئان بجرس الباب يدق، وصبي ماما ماكدونالدز يحمل الطعام المطلوب للبيك الصغير وهو يقف متلمظا في انتظار الشطائر المتفجرة غذائيا ومعها وعاء ضخم مملوء بالمشروبات الغازية الفوارة.. ولا يملك الوالدان المغلوبان على أمرهما _ برغبتهما – الا دفع ثمن الطعام ثم الانصراف لمشاهدة التليفزيون أو قراءة الجريدة أو الرغي في التليفون مع الأصدقاء.. تاركين للصغير حرية افتراس هذه الأغذية غير الصحية..

 

ومن ممارساتي الطبية اليومية أستطيع أن أوكد غياب دور الأم بصورة عامة في تغذية الطفل ، فهي لا تعرف عن طعامه شيئا .. والبركة في ماما ماكدونالدز التي صنعت جيلا من الأطفال يعانون من البدانة وسوء التغذية. وحتى عندما أتوجه للأم  بنصيحة لكي تأخذ بيدها زمام ضبط تغذية طلفها أكاد أسمعها وهي تقول: “وأنا مالي .. هو حر” .

 

وأخيرا ظهرت دراسة استرالية تتحدث عن دور الوالدين في بدانة الأبناء، وعن أهمية قيامهما بدور في مقاومة هذه البدانة .. وأزعجني الى حد الثورة أن مطاعم الأغذية السريعة بدأت التفكير في انتاج أغذية مناسبة للأطفال الذين يعانون من البدانة.. تاني؟ ألم تكتف هذه المطاعم بما أحدثته من مصائب صحية لأطفال أجيال كاملة، وتريد الاستمرار في عملها المدمر تحت شعار مساعدة الأطفال السمان؟ ألم يحن الوقت للأم لكي تفيق وتأخذ زمام المبادرة مرة أخرى من هذه المطاعم التي لا تسعى الا الى الكسب السريع؟ عودي يا ماما الى المطبخ من أجل صحة أولادك ومن أجل مستقبل أفضل لهم .. عودي الى أولادك وانتزعيهم من بين أحضان أمنا الغولة التي تسمنهم لكي تدمرهم .. ماما ماكدونالدز!

ماما ماكدونالدز