p style=”text-align: justify”> 

قد تكون تلك الرائحة هي عطر تطيب به صديق أو حبيب، أو رائحة احتراق أغصان خشب وقود في جلسة ليلية حول نار وكوب شاي في رحلة خلوية، مع صوت أغنية تحبها يتسرب للقلب دافئا مذكرا بالحبيب البعيد. ولكن تظل الفكرة مدهشة ومحيرة ومثيرة.. فكيف يمكن لبعض الجزيئات الذائبة في الهواء والتي تتسرب الى الأنف أن توقظ ذكريات قديمة فتعيدها الى الحياة بكل القوة والعنفوان ؟. لا يترك العلم شيئا بدون دراسة، ولا حجرا بدون تحريكه وقلبه ودراسة ما تحته وما فوقه وما فيه. فقد انكب العلماء على دراسة ظاهرة أسموها “بعث الذكريات بالشم”. ولكن تفاصيل الذكريات التي تستدعيها الرائحة ليست بأهمية المشاعر والعواطف التي تتدفق في النفس وتربت على الروح وتجعل الانسان يتوقف ليدقق في تفاصيل تلك اللحظات، فيقف الوقت بل يعود الى ماض تم استدعاؤه بكل قوة بتلك الرائحة. ويتدخل العقل بتجميل تلك اللحظات التي انبعثت من زوايا النسيان فيصفيها مما يكدرها، ويمررها بين أوراق الورود ويعود ليسميها “ذكريات الماضي الجميل”. التجارب التي كانت تبدو مريرة وقاسية في ذلك الزمن البعيد يستدعيها العقل فتبدو أجمل مما كانت، وسبب ذلك أنها تمثل لحظات في حياتنا لم تعد موجودة  وان عاشت في الذاكرة تنتظر دعوة.

 

طفولة مثالية

خذ مثلا ذكريات الطفولة، وهي تمثل الأوقات التى فيها كنا أحرارا من مسئوليات وقلق الكبار، ونحن دائما ما نعيد تعريفها بطريقة مثالية حتى لو كانت تجاربنا وذكرياتنا في الطفولة صعبة وغير سعيدة. وهكذا بدأ العلماء دراسة ظاهرة انبعاث الذكريات عن طريق الروائح، وفي تجربة تم من خلالها اختيار عشوائي لحوالي ألف شخص في شوارع مدينة شيكاجو الأمريكية، استطلع الباحثون آراء المشاركين عن الروائح التي تبعث فيهم ذكريات الطفولة.

 

كانت النتائج مثيرة، إذ احتلت الأطعمة المخبوزة في الأفران أكبر مكانة بالنسبة للروائح المثيرة لذكريات الماضي والطفولة، رائحة الخبز الطازج والفطائر الساخنة، وجاءت في المركز الثاني رائحة كرات  اللحم والمكرونة الاسباجيتي والصلصة الغنية برائحة الثوم النفاذة. ولكن المولودين قبل عام 1930 كانوا يميلون لاستدعاء روائح مرتبطة بالطبيعة أكثر من الناس الأصغر سنا، ولعل هذا يعكس زيادة في الاتجاه للحياة  في المدن بعد عام 1930 والبعد عن الطبيعة والأماكن الريفية والخلوية.

 

والشم حاسة قوية بدون شك، وجهاز الشم يتكون من أنف ثم أعصاب تنقل الاحساس للمخ حيث يستقر في منطقة محددة تحتوى أيضا على مراكز للعواطف والذاكرة وهذا ما يربط بين الروائح والذكريات والمشاعر. ويميل البشر الى تضخيم البصر فوق كل الحواس، ولكن حاسة الشم هامة بدرجة كافية لبعث تركيبتها الشخصية لظاهرة déjà vu  أي عندما يتخيل المرء أنه قد عاش هذه اللحظات قبل ذلك.

                                                                                         

وحاسة الشم لها وظائف هامة، فهي تحذرك من المخاطر مثل رائحة الدخان، ورائحة غاز البوتاجاز، كما أنها تساعدك على ادراك النكهة الكاملة للطعام والشراب. وحاسة الشم هي أقوي من حاسة التذوق بمقدار عشرة ألاف مرة. ويستطيع الإنسان أن يشم بها آلاف من الروائح المختلفة، والمستقبلات التي تستشعر الرائحة تسمى “مستقبلات الشم” وتحتل منطقة بحجم طابق البريد في سقف التجويف الأنفي، ومنها تتدلى شعيرات دقيقة مصنوعة من ألياف عصبية مغطاة بطبقة من المخاط، وعندما نشم رائحة مكونة من مواد كيماوية منثورة في الهواء فانها تذوب في هذا المخاط، ثم تمتصها الشعيرات حيث تثير المستقبلات الشمية. وجزيئات قليلة من هذه المواد الكيماوية تكون كافية تماما لتنشيط هذه المستقبلات الحساسة جدا.

         

وعندما تستثار هذه المستقبلات فانها ترسل نبضات عصبية الى المخ، في نفس المنطقة تقريبا التي تتعامل مع المشاعر، لذا فأن ردود أفعالنا نحو الروائح نادرا ما تكون محايدة، فنحن نحب هذه الرائحة أو نكرهها، ولكننا لا نتعامل معها بحياد. وتترك الروائح انطباعات طويلة المدى بحيث أنها ترتبط بشدة مع ذكرياتنا. إن رائحة النجيلة الخضراء مثلا قد تذكرك بأجازة قضيتها في طفولتك في مزرعة، كما أن رائحة كحك العيد قد تذكرك بجدتك.

 

شخصيتك من نكهة طعامك المفضل

وفي بحث طريف مرتبط بالشم، يحدد العلماء شخصية المرء من نكهة نوع الطعام الذي يفضله في الوجبات الخفيفة. فالشخص الذي يفضل المكسرات أنسان سهل التعامل معه، عاطفي ومتفهم وهادئ. ومحبو المكسرات يمكن أن يظلوا هادئين حتى في وسط حالة ارتباك عام، كما أن صراخ شريك الحياة أو تسلط رئيس العمل لا يهز هؤلاء الأشخاص. وهم متوازنون لذا فهم ناجحون في الوظائف التي تتعامل مع الجمهور. وقد لا يكون هؤلاء من القادة المبرزين ولكن هدوئهم ورغبتهم في مد يد المساعدة يساهم في صنع بيتا يتمتع بالسلام ووظيفة فعالة.

 

والشخص الذي يفضل الأجبان عنده ضمير حي، وهو شخص ذو مباديء  ويلتزم دائما بالحق ويتوقع من الآخرين نفس الشيء. ودائما ما يعلي من شأن القيم بين زملائه وأسرته. وبهذه الحاسة الدقيقة في التمييز بين الخير والشر فهو يعامل كل واحد بنفس الطريقة من العدل والحق. ويقول عنه معظم عارفيه أنه أقرب للكمال. وقد يبدو متصلبا بعض الشيء بالنسبة للبعض، ولكن في الحقيقة أن ضميره حي وعنده معلومات كافية للتخطيط المستقبلي. وفي المنزل يحفظ كل شيء في مكان محدد مثل بطاريات الراديو وأربطة الاسعافات الأولية، كما أن مكتبه منظم دائما. وهكذا اذا كنت تتعامل في حياتك مع شخص محب للأجبان فكن حذرا وأرجع كل شيء الى مكانه لأنهم يحبون النظام بقوة. وإذا كنت في زيارة لبيت شخص ما ورأيت كل شيء يلمع ونظيف ومرتب فاعلم أنك في حضرة محب للأجبان.

 

أما الشخص الذي يفضل تناول اللحوم في وجباته الخفيفة، فهو يفضل أن يكون دائما في وسط جماعة، ويكون في أفضل حالاته في صحبة آخرين فهو اجتماعي للغاية، وكريم حتى النخاع. وهو صديق مخلص، يمكن الوثوق فيه ودائما وفي، ويضحي من أجل أصدقائه وأسرته بطريقة غير عادية. وهو يثق  جدا بالآخرين مما يجعله عرضة للتمزق النفسي. وهذا الشخص يصعب عليه تقبل انفصال حبيب أو صديق، وعليه أن يحذر المغامرات العاطفية.

 

والشخص الذي يفضل تناول رقائق البطاطس “الشيبس” هو شخص طموح وناجح ومتفوق. ويتمتع بمكافآت نجاحاته في العمل والمنزل أيضا. وهو غير أناني ويستمتع أيضا بنجاح شريك حياته وأطفاله، ولا يقبل الا الأفضل دائما، وتضايقه صغائر الحياة مثل زحمة المرور التي تجعله يفقد عقله، كما أن الانتظار في طابور يكون عبئا ثقيلا عليه. وعلى ذلك يجب على من يشارك محب الشيبس في عمل أو من ينافسه في أي موضع أن يكون مستعدا بأحسن ما عنده.

 

الذين يحبون الفشار يعرفون كيف يسيطرون على الوضع جيدا، وهم سريعو المبادرة الى بذل جهدا أكبر اذا ما استدعت الحالة ذلك سواء في العمل أو المنزل أو أي وضع اجتماعي آخر. ولديهم ثقة قوية بالنفس ولكنهم مع ذلك متواضعون وغير محبين للظهور. وقد يخفي محبو الفشار نجاحهم بطريقة فعالة مما يجعلهم يبدون كأشخاص بدون انجازات بينما تكون كنوزهم مخبأة داخلهم. وإذا ورثت فجأة ثروة كبيرة من قريب كان يبدو فقيرا معدما فاعلم أنه كان – رحمه الله – محبا للفشار !

 

أما الشخص الذي يحب تناول المقرمشات في وجباته الخفيفة  فهو غالبا ما يستخدم المنطق والعقل في التفكير في المشاكل. وهو يفكر كثيرا ويتأمل كثرا، ويميل إلى الخجل كما يتفادى المجادلات لأنه لا يحب أن يجرح مشاعر الآخرين. وهناك احتمال أن يفكر في عدة مشاريع في نفس الوقت، وكلها تتنافس على اهتمامه. لذا فانه من الطبيعي أن يميل في اتجاهات عدة لأن عنده اهتمامات متنوعة. وهو يفضل الأوقات الخاصة ويقيم لها وزنا كبيرا ففيها يستطيع أن يسترخي بدون مسئوليات أو مقاطعة من آخرين. ولديه استعداد خاص لاقامة علاقات عاطفية عن طريق الإنترنت.

 

اذن فالرائحة التي تحبها والنكهة التي تفضلها لها علاقة بشخصيتك ومنها يمكن قراءتك والتعامل معك، كما أن الرائحة التي تحبها تقيم طويلا في تلافيف مخك في ارتباط تام مع ذكريات حميمة قد تنام طويلا ولكنها لا تموت أبدا، وتبعث هذه الذكريات من جديد مع أول “شمة” لهذه الرائحة المستقرة في سراديب الذاكرة.

 

وأنت ماذا يبعث ذكرياتك البهيجة من مرقدها.. هل هي رائحة محشي الباذنجان والفلفل، أم رائحة الطعمية الساخنة والفول في افطار يوم الاجازة حيث يلتئم شمل الأسرة في وئام وحب ؟.. أم رائحة شاطيء البحر في أجازات الصيف ؟ أم أريج شاي معطر.. ارتشفته في ساعة صفاء  ؟..

تلك الرائحة .. تبعث الذكريات من مرقدها
   

 تلك الرائحة.. تبعث الذكريات من مرقدها تتسلل إلى أنفك رائحة ما.. تتوقف.. تتذكر.. تلك الرائحة.. تستدعي ذكريات لحظة مفقودة منذ وقت طويل فتتأرجح في عقلك وقد تنعش قلبك وتبهج مشاعرك  وتحلق بك عاليا، وقد تحزنك وتهوي بك الى قاع سحيق من الألم والأسى الدفين.هذه اللحظة المنسية نظمها العقل ورتبها في زاوية مجهولة ولكنها أصبحت جاهزة للتذكر التام والاستعادة الكاملة بمجرد تنسم تلك الرائحة.