عندما قال الشاعر : “قدك المياس ياعمري .. أيقظ الاحساس في صدري” .. واصفا تأثير قد الحبيب الرشيق على توهج مشاعره ، لم يعرف أن مقلوب هذا الشعر صحيح أيضا .. فالإحساس بالحب يمكن أن يوقظ الرشاقة فتتفتح عن قد مياس. وعندما يقع الإنسان في الحب .. يقبل على الحياة .. وتشرق شموس السعادة والفرح على النفس .. فتبدو كل الأشياء جميلة .. ويلون الحب الهواء و الأشجار و الزهور .. وتنفتح شهية الانسان للبهجة والمرح والموسيقى والغناء .. ولكنها لا تنفتح بنفس القدر للطعام .. p> 

وتحكي قصص الحب الشهيرة عن الهزال الذي يصيب المحبين نتيجة انقطاعهم عن الطعام وعدم الرغبة فيه، وتبالغ روايات ألف ليلة وليلة في وصف العاشق الذي لا يأكل ولا يشرب ، وينقطع لقرض الشعر وتلاوة القصائد في وصف مقدار حبه للحبيب ثم سقوطه مغشيا عليه من ألم الشوق وضعف الجسد نتيجة عدم الأكل .

 

وفي واقع الأمر فقد لاحظ العلماء ان الانسان عندما يقع في الحب يفقد شهيته للطعام و لا يقبل عليه كسابق عهده ، وبالتالي فانه يفقد وزنا بالرغم من اقباله على الحياة و سعادته بها ، كما لاحظوا أيضا ان الانسان المفتقد للحب والذي يعاني من الاكتئاب ، يعاني أيضا من شره هائل للطعام ، وشهية مفتوحة لا تشبع ، ويصاب المكتئب بالتالي بزيادة الوزن و السمنة .

 

والمحب في سعادته الجديدة يعبر عن مشاعره من خلال حبه ، ويستمتع بالحياة من خلال احساسه أنه محبوب ، فلا يحتاج الى توجيه مشاعره الى اشباع خاطيء من خلال قنوات بديلة مثل الأكل ، ولا يبحث عن احساس زائف بالأمان من خلال معدة ممتلئة ، فهو يأكل عندما يجوع بما يكفي حاجته ، كما يأنه يوجه جزء من اهتماماته الى تحسين منظره الجسدي جذبا لاعجاب المحبوب و اهتمامه ، وبالتالي زيادة الوسامة والجمال في حلقة مفرغة طريفة .

 

ولكن .. ما هي العلاقة بين الحب و السمنة ؟ وهل كيمياء الحب تتدخل في كيمياء زيادة الوزن أو فقده ؟ في واقع الأمر أن العلماء اكتشفوا أن المواد الكيميائية التي تزيد معدلاتها في المخ في حالة الوقوع في الحب ، والتي تقل معدلاتها في حالة الاصابة بالاكتئاب هي نفسها المواد الكيميائية التي تضبط الشهية في حالة ارتفاع معدلاتها ، والتي تصيب الانسان بالشره في حالة انخفاض معدلاتها .

 

وبالرغم مما يقال بشاعرية عن أن الحب يأتي من القلب ، فانه حقيقة يأتي من المخ حيث تكون هناك ناقلات عصبية تحمل الاشارات الكيميائية و الكهربية . وهذه الاشارات عندما تعمل بصورة حيدة فانها تنشأ المشاعر والتوازنات النفسية والجسدية . والحب هو شعور يظهر جليا من خلال أعراض جسدية ، فالمحب مع سعادته قد يشعر بالقلق و التوتر والعصبية و أحيانا الخوف عندما يقع في الحب ثم ينفصل عن حبيبه لأول مرة ، وهذا هو عمل كيميائيات المخ عندما تخرج عن توازنها الطبيعي .

 

ويحتوي المخ على مواد كيميائية معينة مثل الدوبامين ، والسيروتونين ، وحمض الجاما أمينوبيوتيريك ، ومادة الأسيتيل كولين . ولكل مادة من هذه المواد عمل محدد من خلال ممرات محددة ، مما يربط عمل هذه المواد الكيميائية ببعضها، و يؤدي ذلك الى نشوء تفاعلات معينة تقود الى مشاعر ورغبات بذاتها . ومثال ذلك الرغبة في أكل الشيكولاته عندما نشعر بالوحدة أو عندما نكون تحت ضغوط ما ، أو عندما نصاب بالاكتئاب . كما قد تقود هذه التفاعلات للشعور بالغضب والانفعال، وذلك مايحدث مثلا كرد فعل لازدحام حركة المرور .

 

وهناك قائمة طويلة من الحالات التي تختلف فيها المشاعر نتيجة عدم التوازن بين المواد الكيميائية الموجودة في المخ ، مثل النشاط الزائد أو الشعور بالاكتئاب أو القلق ، أو متاعب القولون ، أو ارتفاع الضغط ، ومشاكل زيادة الوزن ، والوساوس ، والخوف ، والتعجل وغير ذلك الكثير .

 

وكيمياء المخ تبدأ بطاقة كهربية تجري في الأعصاب ثم تتحول الى طاقة كيميائية في المخ ، ثم تتحول ثانية الى صورة أخرى من الطاقة الكهربية التي تسري في الجسم عندما يحتاج اليها مثل التقاط قلم أو فتح باب . وعندما تكون هذه التحولات في الطاقة غير كافية أو غير مناسبة فان المشاعر والأعراض الجسدية تبدأ في الظهور . وانخفاض مستوى مادة السيروتونين مثلا ينتج الأرق ، وقلة الثقة في النفس ، والسلبية ، والاكتئاب ، والنرفزة ، والتعجل والغضب ، والرغبة في الأكل بكميات كبيرة. بينما لو كان مستوي مادة السيروتين في أعلى درحاته فان الاحساس العام يكون في أحسن حالاته . وهذا هو ما يحدث عندما نشعر بالحب . فالوقوع في الحب يرفع مستوى مادة السيروتونين، وبالتالي يزول الاكتئاب والغضب وقلة الثقة بالنفس وتعود الشهية الزائدة لمستواها الطبيعي . ولسوء الحظ فان مادة السيروتونين تعود لمعدلاتها الطبيعية المنخفضة عندما تفتر العوامل التي أدت الى بدء الحب . و قد يرجع ذلك الى أن مستويات السيروتونين المنخفضة تكون موروثة و ثابتة بالنسبة للأشخاص . وعدم التوازن قد يحدث لأي من المواد الكيميائية الموجودة بالمخ نتيجة لنوع الغذاء الذي نتناوله ، والحساسية لأنواع من الأطعمة و الأدوية و الأعشاب ، وأيضا الملوثات البيئية وضغوط الحياة وكعنصر موروث عن الآباء . ومن الجدير بالذكر ان بعض العلماء ينصحون باستعمال منتجات الطعام الطبيعية للحفاظ على التوازن بين المواد الكيميائية المنظمة لعمل المخ . وفي اجمال للأفكار السابقة يمكن القول أن الحب يجعلنا في حالة فريدة من التوازن بين المواد الكيميائية التي تعمل في المخ . اذن فالانسان المفتقد للحب والمصاب بالاكتئاب يعاني من نقص في مادة السيروتونين في المخ ، ولهذا تعتمد كل أدوية علاج الاكتئاب على رفع معدلات هذه المادة .

 

ولعل هذا يفسر لماذا يقبل بعض المصابين بالاكتئاب على تناول الشيكولاتة بكميات كبيرة اذ ثبت أنها تزيد من معدلات السيروتونين في المخ ، ولكنها بالطبع تزيد من فرص الاصابة بزيادة الوزن والسمنة . و يبقى الحل الوسط هو في تناول الشيكولاتة المحتوية على السكريات الصناعية التي لا تساهم في زيادة الوزن ، والتي ثبت سلامتها للاستعمال الآدمي .

 

الحب اذن يرتبط بالتوازن في كيمياء المخ وايضا في الشهية . والحب هو الحالة التي تسمح للمشاعر بالتعبير عن نفسها في قنواتها السليمة فلا تختلط الأمور اذ يفقد المرء القدرة على التعبير عن مشاعره فينفس عن ذلك بالأكل الذي يصبح هو القناة الوحيدة للتعبير عنها . والحب هو الذي يغير من كيمياء المخ فيرفع من مستويات مادة السيروتونين فيشعر الانسان بالثقة و الفرح و يذهب الاكتئاب ، و يتبدل حال الشهية فتقل الرغبة في الأكل وتعود الى مستوياتها الطبيعية مما يجعل الانسان يأكل ما يحتاجه فقط ، فينعكس ذلك على الوزن فينخفض الوزن ويكتسب المحب رشاقة مطلوبة ، حتى أن بعض العلماء قدر أن الحب يقلل من الوزن بمقدار 10 % وهى النسبة المطلوبة لتحسين الحالة الصحية للشخص زائد الوزن الذي يعاني من زيادة ضغط الدم و ارتفاع مستوى السكر فيه ، ونقص بنسبة 10 % من الوزن قد يكون كافيا لعلاج ضغط الدم بدون أدوية – مع مراعاة التقليل من استهلاك ملح الطعام – و أيضا علاج مرضى السكر للبالغين ، مع مراعاة اتباع نظام غذائي مناسب.

 

وتوجد بعض الأدوية التي يمكن أن ترفع من نسبة مادة السيروتونين ، و منها أدوية يصفها الأطباء النفسانيين لعلاج الاكتئاب ، وأيضا هناك أدوية لعلاج مرض السمنة عن طريق رفع مستويات هذه المادة في المخ ، ولكن يجب أن يوضع في الاعتبار أن بعض هذه الأدوية لها أعراض جانبية – مثل كثير من العقاقير – ومنها ما يؤدي الى زيادة معدل ضغط الدم . وهناك أيضا العلاج بالوخز بالابر في نقاط معينة في الأذن لإفراز مادة السيروتونين مما يؤدي إلى تثبيط الشهية و الاحساس بالشبع بسرعة.

بغير حبك لا أكون رشيقا