يبدو أن الحب قد تعرض للاختطاف.. وأن الذين اختطفوه علماء كانوا يظهرون دائما انشغالا بأمور أخرى غير الحب .. أو قد يكون الحب هو الذي اختطفهم فسيطر على اهتماماتهم وأفكارهم.. ويبدو أن العلم والحب تصارعا بعد اختطاف أحدهما للأخر.. وانتهي الأمر بالعلم يوقع الحب أرضا.. ثم يشبعه بحثا ودراسة وتشريحا.. بالذي احتل المكانة الأولي لدي الشعراء والأدباء والفنانين قد تعرض عدها راح العلماء يكتبون في الحب وعنه كما كتب الشعراء قبلهم.. ولكنهم في هذه المرة يصفون الحب وتأثيراته على العشاق بما تفعله هورموناته في رعاياه من المساكين الذين أذلهم بالوقوع في براثنه. ولقد سبق للعلماء أن اختطفوا القمر من الشعراء، فدمروا جماله ورقته وشاعريته، وصوروه لنا مجموعة من الجبال والصخور والأودية الجافة، حتى أصبح وصف الحبيبة بالقمر من قبيل سوء التعبير.. فهل يغير العلماء مفهوم الحب الجميل، مبدلين المشاعر والعواطف الرقيقة الى مجموعة من العمليات الكيمياوية البحتة للهورمونات ؟
دعونا ننظر الى أحدث مالدينا من اكتشافات العلماء الذين ينكبون على دراسة الحب وأسراره دراسة علمية تمسك بتلابيب الهورمونات والكيماويات التي يفرزها الجسم خلال مراحل الحب المختلفة.. أحدث الاكتشافات كان عن هورمون يسمى الأوكسيتوسين. ومؤخرا أعلن علماء من سويسرا والولايات المتحدة أن تعريض أشخاص لهورمون أوكسيتوسين يجعلهم أكثر استعدادا للتقارب مع الآخرين، كما انه يحفز سلوكيات الثقة في الآخرين. فما هي حكاية هورمون الأوكسيتوسين المعروف بهورمون العناق، والذي يفرزه كل من الرجل والمرأة في ذروة العلاقة الجسدية، والذي تزيد نسبته في الدورة الدموية أثناء التدليك، كما أنه ينخفض بمجرد تذكر موقف عاطفي سلبي.
في الماضي كان الأوكسيتوسين يعرف باسم “الهورمون غير المعقد” حيث كانت المعلومات المعروفة غنه قليلة وكلها مرتبطة بالولادة وارضاع الوليد الجديد، ولكن الدراسة المكثفة أظهرت تأثيرات عظيمة لهذا الهورمون المثير. الدراسات الحديثة أظهرت لهذا الهورمون القدرة على زيادة ارتباطنا مع الآخرين، وتداخله في الحفاظ على علاقات حميمة وطيبة وروابط نفسية وطيدة بين الناس، فهو هورمون الترابط والتآلف، وهو المسئول عن الأحاسيس العاطفية في العلاقات الحميمة. وقامت الدراسات الحديثة على أساس المعرفة السابقة لدور هذا الهورمون في الحياة الانجابية في الثدييات، فهو الذي يساعد الأمهات في الحيوانات الثديية على بناء الأوكار والجحور، وفي الحفاظ على مواليدها، وهو الذي يجعل الأغنام تتقبل مواليدها عندما تلتقم حلماتها للرضاعة، وأيضا هو الذي يديم علاقات الارتباط بين ذكر بذاته وأنثى بذاتها في بعض الحيوانات. وفي الإنسان ينشّط الهورمون افراز اللبن خلال عملية الإرضاع، ويجعل الرحم ينقبض أثناء الولادة، ويتم إفرازه خلال ذروة العلاقات الجسدية الحميمة في النساء والرجال على السواء.
وأظهرت الدراسات أن هورمون الأوكسيتوسين يفرز استجابة لحالات عاطفية شديدة بالاضافة للأسباب الجسدية، فهو يرتفع عند تذكر حالات الحب الايجابية والاعجاب الشديد، وينخفض عند تذكر تجارب حب سلبية تعرضت فيها المرأة للهجر والبعاد. كما يرتفع هورمون الأوكسيتوسين في الدم مع تدليك الرقبة والكتفين.
ولأن هذا الهورمون هو هورمون الارتباط فهو الهورمون الذي يبني علاقات الارتباط الشديدة بين الأم ووليدها حيث يدفع جسدها وعقلها الى التركيز على رعاية الوليد، وهو أيضا يلعب دورا في حالات الاكتئاب الشديدة والضغوط النفسية الداخلية التي تتعرض لنا النساء بصورة أكبر من الرجال بمقدار الضعف، ويظهر ذلك عندما يعانين من مشاكل العلاقات العاطفية والزوجية بصورة أكبر.
وهورمون الأوكسيتوسين يتكون من 9 أحماض أمينية تنتج في أعصاب منطقة “تحت المهاد” في المخ، وينتقل من خلال محاور معينة الى الغدة النخامية الخلفية حيث يفرز في الدم، كما يتم افرازه في المخ وبعض الأنسجة الأخرى مثل المبيضين في النساء والخصيتين في الرجال. وأكثر المؤثرات التي تؤدي الى افراز هذا الهورمون هو لمس حلمة الثدي، حيث أن التقام الرضيع للحلمة أثناء الرضاعة يؤدي الى انتقال نبضة عصبية الى المخ ثم الى الأعصاب المنتجة للأوكسيتوسين في وقت قصير جدا لا يتجاوز أجزاء من الألف من الثانية الواحدة ثم يبدأ افراز الهورمون الذي يؤدي الى افراز اللبن في الحال. وهذه العملية تشرح لماذا يلجأ حالبو الأبقار الى غسل الأضرع مع تدليكها برقة اذ تدفع هذه العملية الى تنشيط افراز الهورمون، الذي يؤدي بدوره الى افراز اللبن وضخه، حيث أن 80 % من اللبن يتم افرازه وضخه في الضرع أثناء عملية الحلب ذاتها. وهناك بعض العوامل التي تثبط من عملية انتاج الهورمون مثل الضغوط النفسية الحادة، فتتأثر الأعصاب المنتجة له بهورمونات الانفعال التي تفرز من الغدة الكظرية، ومن هذه الضغوط حالة الخوف الشديد. وانتاج الأوكسيتوسين وتأثر الجسم به يرتبط بمعدلات الهورمونات الجنسية في الجسم. والارتفاع الشديد لمعدله وقت الولادة له علاقة بتمدد عنق الرحم والمهبل تحت تأثير مرور رأس الجنين من خلالها، وأيضا بالانخفاض الحاد في معدلات هورمون البروجستيرون الذي تفرزه المشيمة التي تنفصل عن الرحم وقت الولادة، وهكذا يعمل الأوكسيتوسين على انقباض الرحم بعد الولادة مما يعود به الى حجمه الطبيعي قبل الحمل.
ولكن إذا كان دور هورمون الأوكسيتوسين مفهوما في المرأة، فما دوره في الرجل ؟ يتم انتاج الهورمون في الرجل في نفس المنطقة “تحت المهاد” مثل المرأة تماما، وأيضا في غدتي الخصيتين وربما بعض الأجزاء الأخري في الجهاز الانجابي للرجل، ويمكن ملاحظة دفقات من الأوكسيتوسين اثناء ذروة اللقاء الزوجي، حيث يسهل من حركة سائل الرجل، كما أن له تأثيرات مباشرة على السلوكيات الجنسية للرجل.
لكن الأوكسيتوسين ليس وحده في ساحة الحب، فهو واحد من منظومة هورمونية عرفها العلماء وفسروا بها المملكة التي توج فيها الحب ملكا قيل فيه : ” ملك غشوم، مسلّط ظلوم، دانت له القلوب، وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، العقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ لفظه، دقيق المسلك، عسير المخرج”.
مراحل الحب الثلاث
وللحب مراحل ثلاث تنعكس على الجسد بما يفرز من هورمونات . وعلامات الحب الجسدية هي تورد الخدود، وتسارع نبضات القلوب، وبرودة الأطراف، وتلك يصاحبها في داخل الجسم علامات كيميائية تدل على أن سهام كيوبيد قد أصابت هدفها. والمراحل الثلاث هي:
1. مرحلة التلهف والاشتهاء : وهذه تكون تحت تأثير هورمونات الجنس (التستوستيرون والاستروجين ) والتستوستيرون الذي يوصف بأنه هورمون الذكورة لايوجد فقط عند الرجال، بل يلعب دورا هاما أيضا في التأثير الجنسي عند المرأة أيضا.
2. مرحلة الانجذاب : وهي بداية الحب الحقيقي، فعندما يقع انسان في الحب لا يفكر في أي شيء آخر عدا المحبوب، وقد يفقد الانسان شهيته للأكل، ويقل نومه مفضلا قضاء الساعات في التفكير في محبوبه الجديد. يشعر الإنسان في هذه المرحلة بالبهجة والمعنويات المرتفعة وزيادة الطاقة، وأيضا تسيطر عليه الأفكار القهرية مع التركيز الشديد على المحبوب. وفي مرحلة الانجذاب تلعب مجموعة من الكيماويات أو الموصلات العصبية وتسمى “الأمينات الأحادية” دورا هاما وهي :
• الدوبامين : وهو هورمون الرضا والسعادة، وهذا أيضا يمكن تنشيطه بالكوكايين والنيكوتين.
• الأدرينالين : وهو الذي يجعلنا نعرق ويسارع من نبضات القلوب.
• السيروتونين : من أهم كيماويات الحب، وهو الذي يذهب بعقل المحب أحيانا، وله صلة بزيادة الشهية والاكتئاب في حالة نقصانه.
3. مرحلة التعلق : عندما يمتد أجل الحب فان المحبين لا يظلون في مرحلة الانجذاب الى الأبد، وإلا فانهم سوف يهملون أعمالهم ومسئولياتهم. والتعلق هو التزام مستمر طويل المدى، وهو الرابطة التي تحفظ المحبين معا عندما يقررون الارتباط بالزواج ومن ثم انجاب الأطفال. وفي هذه المرحلة يظهر نوعين من الهورمونات يتم افرازهما من خلال الجهاز العصبي، وهي تلعب دورا أيضا في التعلق الاجتماعي، وهذين الهورمونين هما :
• هورمون أوكسيتوسين الذي سبق التحدث عنه.
• هورمون فازوبرسين Vasopressin: وهو مادة كيميائية هامة أخرى في مرحلة العلاقة طويلة الأمد، وأيضا لها دور في عمل الكلى.
الحب والجنون
في الماضي قال شكسبير “ما الحب الا جنون”، كما أنشد قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى أبياتا قال فيها:
قالت جننت على رأسـي فقلت لها الحب أعظم مما بالمجــانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحــبه وانما يصرع المجنون في الحين
وفي أيامنا هذه تغنت اليسا بنفس المعنى.. “أجمل إحساس في الكون انك تعشق بجنون ” وهذا الكلام ليس بعيدا عن ملاحظات الطب النفسي فلقد ثبت مؤخرا أن الحب يؤدي الى أعراض مشابهة لأمراض نفسية، وأظهرت دراسة إيطالية أن الذين يقعون في الحب حديثا يظهرون بعض أعراض مرض الوسواس القهري، حيث يتصرفون بطريقة قهرية مع بعض الأشياء مثل غسل الأيدي المتكرر، أو التأكد مرارا من اغلاقهم للباب وغير ذلك من التصرفات.
وبعكس ما هو متوقع فان الحب يمكن أن يصيب بالاكتئاب، والمرضي بالوسواس القهري يظهرون معدلات منخفضة من الموصل العصبي سيروتونين الذي يرتبط بالقلق والاكتئاب. وأظهرت دراسة أجريت على بعض الطلبة الذين أقروا أنهم دخلوا في تجربة الحب حديثا أن معدل السيروتونين لديهم منخفض بنسبة 40 % أقل من أقرانهم. وعلى العموم فان التأثير الكيمياوي الحيوي للوقوع في الحب لا يستمر طويلا، إذ أظهرت نفس هذه العينة من الطلبة معدلات طبيعية من السيروتونين بعد مرور عام على دخولهم في علاقات الحب. ويرجع بعض الخبراء ذلك الى أننا نحتاج الى هذا التغير الكيميائي لكي تستمر علاقات الحب، حيث أن الوقوع في الحب يستلزم بعض الجنون أحيانا. ومن المثير أن الأشخاص الذين يظهرون معدلات سيروتونين منخفضة يتميزون بالفحولة، ومع كونهم أكثر قلقا من باقي الرجال فهم أنشط جنسيا. ومن ناحية أخرى أكدت دراسات عديدة أن المعاناة في الحب لها آثار نفسية عنيفة أقسى بمراحل من الحرمان من الجنس، وكثيرا ما سجلت حوادث انتحار أشخاص نتيجة للفشل في الحب، بينمالم يحدث أن اقدم أحد على هذه الفكرة المؤسفة نتيجة لحرمان أو فشل جنسي.
هذا هو الحب بعيون العلماء.. فهل يستعيده الشعراء والفنانون أم نقبله على حقيقته العلمية البحتة.. هورمونات تعمل فينا بعمليات كيمياوية تسعدنا أحيانا وتصيبنا بالاكتئاب والجنون أحيانا أخرى؟