(هذا المقال أهديه للأب المتألم الذي هاتفني مساء يوم 4 يناير 2010 متسائلا عن إمكانية أن يتمكن طفله المريض بالتوحد من الكلام، وعن مستقبله الذي يبدو غامضا).
اسمها دكتورة تمبل جراندين ، وتعمل أستاذا مساعدا لعلم الحيوان في جامعة كلورادو بأمريكا.. الى هنا والأمر غير لافت للنظر.. ولكن المثير في الموضوع أن تمبل جراندين كانت طفلة تعاني من مرض الأوتيزم (التوحد)، وبفضل التدخل المبكر في حالتها وبمعاونة والديها ومدرسوها واخصائية التخاطب ، استطاعت أن تقفز فوق كل الصعاب وأن تتبوأ مكانة علمية وعالمية فذة لفتت اليها الأنظار . وقامت بكتابة العديد من المقالات التي تتحدث فيها عن تجربتها في الانتصار على الأوتيزم .. ونتركها لكي تحكي قصتها بنفسها ، منذ الطفولة وحتى الآن.. ليعرف كل من لديه طفل أوتيزم كيف يشعر طفله وكيف يفكر ، والصعوبات التي يمر بها عندما لا يستطيع التعبير عن مشاعره وأفكاره ومعاناته .. لعل في هذه المعرفة ما يساعد الكبار على تفهم معاناة أطفال الأوتيزم ..
عمري 44 عاما ، وأنا امرأة أعاني من مرض الأوتيزم ، ولكن لدي مهنة وصلت فيها للنجاح والعالمية حتي أنني أقوم بتصميم آلات تتعامل مع الماشية والحيوانات وكلها مسجلة باسمي كمخترعة لها . أكملت درجة الدكتوراة في علم الحيوان في جامعة الينوي ، وأنا الآن أستاذ مساعد لعلم الحيوان ، ولقد كان للتدخل المبكر في حالتي عند عمر الثانية والنصف الفضل في تخلصي من اعاقتي .
في السطور التالية أتناول مواضيع مختلفة عانيت منها وأنا طفلة مصابة بالأوتيزم مثل الاحباط الذي شعرت به من عدم القدرة على الكلام ، ومشاكل الاحساس العصبي ، حيث كانت حواسي عالية الحساسية للضجة واللمس ، وكان الصوت العالي يؤذي أذني كما كنت أرفض اللمس من الآخرين بسبب حساسيتي العالية لكل ما يلمس جلدي .
في سن البلوغ صنعت لنفسي ألة للضغط ساعدتني على تهدئة أعصابي وتحمل اللمس . وفي نفس السن أصابتني نوبات قلق رهيبة زادت حدتها مع العمر ، ثم ساعدتني مضادات الاكتئاب على مقاومة هذا القلق .
ولقد حولت تعلقي بالأشياء الى نشاط بناء ومهنة ناجحة مع الاشارة الى أهمية الشخص الذي كان ينصحني . وسأذكر مهاراتي ومناطق ضعفي بكل تفاصيلها . وكانت لدي خاصية فريدة ، اذ كنت أشاهد كل أفكاري في عقلي مثل شريط فيديو يدور في مخيلتي ، حتى أفكاري التي تتعلق بالتواصل مع الآخرين كنت أراها من خلال تخيلاتي .
عدم القدرة على الكلام
عدم القدرة على الكلام هو الاحباط بعينه ، وعندما كان الكبار يتحدثون الىّ كنت أفهم كل شيء يقولونه، ولكني لم أكن أستطيع أخراج الكلمات من فمي ، ولكن عندما أكون في وضع لا أتعرض فيه لضغوط كبيرة كانت الكلمات أحيانا تنتصر على الحواجز وتخرج من فمي . وعرفت اخصائية التخاطب كيف تدخل الى عالمي، فكانت تمسك بذقني وتجعلني أنظر الى عينيها وأنطق الكلمات خلفها، وأصبح لدخولها العميق في حياتي أثره الفعال في تعلمي الكلام . كانت أمي ومدرساتي يتعجبن من صراخي الدائم ، وهذا الصراخ كان الوسيلة الوحيدة التي كنت أستطيع التواصل والتعبير عن نفسي بها . كنت أفكر بطريقة منطقية وأقول لنفسي : "سأصرخ الآن لأني أريد أن أخبر أحد ما أني لا أريد القيام بشيء ما" .
ولقد كان من المثير أن طريقة نطق كلامي كانت تشبه طريقة نطق الأطفال الذي أجروا عمليات لازالة ورم من المخيخ وقد أثبتت الأبحاث بالفعل أن أطفال الأوتيزم يعانون من ضمور في حجم مناطق في المخيخ ، وفي حالتي أظهرت أشعات الرنين المغناطيسي بعض التغيرات غير الطبيعية في المخيخ ، لذا كنت لا أستطيع أن أمشي في خط مستقيم ، فدائما كنت أميل الى الجوانب ، ولكن ردود أفعالي كانت طبيعية للاختبارات العضلية البسيطة التي يتم اجرائها لفحص خلل وظائف المخيخ.
ولقد أثبتت الأبحاث والدراسات أن تنشيط الأذن الداخلية وبالذات الجزء المسمى بالقوقعة يمكن في بعض الأحيان أن ينشط الكلام لدي أطفال الأوتيزم ، وثبت أن مرجحة الطفل ببطء على أرجوحة يمكن أن يساعده على البدء في الكلام . ورغم أني لا أستتطيع القيام ببعض أنواع الحركات المترابطة السلسلة ، الا أننى أبدو للملاحظ العادي طبيعية تماما ، وأنا أيضا لا أستطيع تعلم العزف على آلة موسيقية بالرغم من امتلاكي لأذن موسيقية ، والموسيقى الوحيدة التي أعزفها هي الصفير بفمي .
الايقاع والموسيقى
خلال مرحلة المدرسة الأولية كان كلامي غير طبيعيا تماما ، وكنت أستغرق وقتا أطول من باقي الأطفال في اخراج الكلمات من فمي ، ولكن الغناء كان سهلا بالنسبة لي ، وكان صوتي جيدا فكنت أستطيع ترديد أي لحن بمجرد سماعة مرة أو مرتين . ولكني لا أزال أعاني حتى الآن من مشاكل مع الايقاع ، فأنا أستطيع أن أصفق ايقاعا محددا مع نفسي ، ولكني لا أستطيع ضبط تصفيقي مع آخرين في ايقاع محدد . هذه الظاهرة تنبه لها الباحثون أثناء عزف أطفال الأوتيزم على البيانو ، ومشاكل الايقاع هذه مرتبطة ببعض مشاكل الكلام عند أطفال الأوتيزم ، حيث يتحرك الأطفال الطبيعيون بتناسق مع كلام الكبار ، بينما يفشل أطفال الأوتيزم في القيام بذلك ، كما وجدت بعض الدراسات أن أطفال الأوتيزم والمصابين بالتهتهة لديهم ضعف في الحركات التوافقية، فمثلا لديهم أذن تسمع الصوت أسرع من الأذن الأخرى بحوالي ثانية واحدة ، وقد يفسر هذا بعض مشاكل الكلام ، لذا يتهمنى بعض الناس بمقاطعتهم عندما يتكلمون ، حيث أن متابعتي لايقاع المناقشة وارتفاع وتيرتها شيء صعب .
مشاكل سمعية
ان سمعي يشبه تماما استعمال سماعة أذن لتكبير الصوت مع وضع مؤشر الصوت على أقصى درجات الارتفاع ، أو مثل ميكروفون يلتقط كل الأصوات ، وعندي خيارين : اما أن أترك الميكروفون يعمل وأنزعج بالصوت ، أو أن أوقفه عن العمل . كانت أمي تقول أني أحيانا كنت أتصرف مثل الصماء تماما ، بينما أظهرت قياسات السمع أن سمعى طبيعي تماما ، وأنا عموما لا أستطيع أن أقلل من كمية الصوت التي تذهب الى أذني . ويعاني أطفال الأوتيزم من مشاكل مع تكييف حواسهم ، فهو اما يتجاوبون أكثر من اللازم أو أقل من اللازم ، ويعاني أطفال الأوتيزم أيضا من مشاكل غير طبيعية في طريقة عمل جهازهم العصبي التي تتحكم في القدرة على تغيير الاهتمام من مؤثر حسي لآخر . وأنا لا أستطيع الكلام في التليفون في مكتب به ضجيج أو في مطار ، حيث انني أركز دائما في الأصوات الموجودة في خلفية المكان كما أركز في الصوت الذي أسمعه من التليفون . لذا يجب حماية طفل الأوتيزم من الأصوات العالية التي تزعجهم ، فقد تؤذيهم أصوات حفار الأسنان الذي يستعمله الطبيب في عيادة الأسنان . وطفل الأوتيزم يغطي أذنيه لأن بعض الأصوات تؤلمه حقيقة ، وصوت مفاجيء ، حتى لو كان خافتا ، يمكن أن يقود الى تسارع نبضات قلبي . والمخيخ غير الطبيعي يمكن أن يلعب دورا في ازدياد حساسية الأصوات لدي طفل الأوتيزم .
وأنا حتى الآن أكره الأماكن التي تمتليء بالأصوات المتداخلة مثل مجمعات التسوق ، والأصوات الحادة المستمرة مثل صوت مروحة شفاط الحمام أو مجفف الشعر تضايقني بشدة ، وطفل الأوتيزم لا يستطيع التركيز في حجرة الدراسة اذا كان سمعه يستهدف بأصوات عالية من مصادر مختلفة فتضرب رأسه مثل قاذفة القنابل . ان أصوات المفرقعات والألعاب النارية تؤلم أذني بشدة ، وفي طفولتي كانت مربيتي تعاقبني عن طريق فرقعة كيس ورقي مملوء بالهواء ، فكان هذا هو العذاب ذاته . وقد يعاني طفل الأوتيزم من تغير في الاحساس بدرجات الصوت فيعلو وينخفض حتى يكاد لا يستطيع متابعة مناقشة ما .
مشاكل في اللمس
معظم الناس يتأقلمون مع الاحساس بالأنواع المختلفة من الملابس خلال دقائق معدودة ، ولكني أستغرق وقتا طويلا قد يصل الى أربعة أيام لكي أتعود على ملمس ملابسي الداخلية الجديدة . ان احساسي بالتنورة الجديدة والجوارب الجديدة كان يصيبني بالجنون ، حيث كان يجب علينا في مناسبات معينة أن نلبس تنورة بدلا من البنطلون ، ولم يعرف والديّ حجم معاناتي في ذلك الوقت ، وأنا الآن أشتري ملابس لها نفس الاحساس الذي أشعر به لملابسي القديمة ، ولم يدر والديّ سر انفعالي وقتها ، ولعل بعض التفهم منهما كان يمكن أن يحسن من سلوكي معهما .
ويمكن التقليل من الحساسية اللمسية عن طريق تشجيع الطفل على حك جلده بأنواع مختلفة من الأقمشة حتى تقل حساسية الجلد عن طريق التعود . كانت نهايات الأعصاب في جلدي حساسة للغاية ، حتى أن المؤثرات التي كانت تافهة بالنسبة للآخرين تعذبني .
وفي طفولتي كنت أتوق الى الشعور بالضغط على جسدي بقوة ، وكنت أتمنى الشعور بأن أحدا يحتضننى، ومع ذلك كان الشعور الجيد يفارقني بمجرد أن يحتضننى أحد. وعندما بلغت الخامسة من العمر كنت أتخيل في أحلام اليقظة آلة أذهب بداخلها حيث أتمتع بالضغط الذي يريحني، وكنت أتخيل اننى أستطيع التحكم في قوة ضغط هذه الآلة ، حتى اننى كنت أنام تحت وسائد الكنبة وأطلب من أختى أن تجلس على الوسائد لأشعر بالضغط . وأثبتت الدراسات فيما بعد أن أطفال الأوتيزم يفضلون الاحساس بالضغط واللمس والتذوق والشم عن أحاسيس السمع والرؤية .
آلة الضغط
وعندما بلغت سن 18 عاما صنعت آلة الضغط ، وهي مبطنة بالكامل بالمطاط الرغوي ويستطيع المستعمل أن يتحكم تماما في فترة وكمية الضغط المستخدمة ، وهي تمنح ضغطا مريحا على مساحات كبيرة من الجسم . وكنت قد استغرقت وقتا طويلا لكي أتعلم كيفية تقبل احساس أن يمسك بي أحد وألا أحاول التملص من ذلك ، وتقول بعض الدراسات أن قلة تعاطف طفل الأوتيزم الاجتماعية تكون بسب قلة تلقيه للمؤثرات اللمسية المطمئنة . وهذه الآلة الضاغطة كانت تهديء من تصرفاتي حتى أن القط السيامي الذي كنا نمتلكه كان يتعامل معي بهدوء ولا يهرب كعادته بعد قضائي بعض الوقت في آلة الضغط التي كانت تريحنى وتهدئني ، كما كنت أشعر أني لا أشعر بالعدوانية أبدا بعد استعمالي لهذه الآلة .
وحاليا ينتشر استعمال آلة الضغط التي اخترعتها في العيادات التي تعمل مع أطفال الأوتيزم ، ويؤكد بعض الباحثين أن لها تأثيرا مهدئا على السلوكيات الانفعالية العالية .
القلق في سن البلوغ
عندما كنت طفلة كنت نشيطة للغاية ولكني لم أشعر بالعصبية حتى وصلت سن البلوغ ، فقد تغير سلوكي الى الأسوأ . وبعد حدوث أول دورة شهرية في حياتي بدأت نوبات القلق تصيبني . كان احساسي يشبه الشعور بالخوف عند اعتلاء خشبة المسرح وكان هذا الشعور دائما ، وتخيل نفسك في حالة الوقوف لكي تلقي خطبة بين الناس لأول مرة في حياتك ، فكان قلبي يدق بقوة ، ويديّ تعرقان وأتحرك بصورة غير مريحة . كانت أعصابي شديدة الحساسية ، ولم تنفع معي المهدئات ، فكنت أصاب بالاعياء في آخر النهار من فرط الانفعال والعصبية . وكان هذه العصبية تظهر أحيانا في صورة أعراض مثل آلام القولون ، وسرعة في التنفس .
استعمال الأدوية
بالطبع للأوتيزم أنواع كثيرة ، والدواء الذي ينفع واحد قد لا ينفع الآخر ، ويجب على الوالدين في حالة طفل الأوتيزم أن يلجئا للطبيب لتقرير نوع الدواء الذي يفيد طفلهما . وفي حالتي فقد قرأت في مكتبة طبية عن أدوية مضادة للاكتئاب أظهرت فعالية في علاج مرضي بالقلق والخوف ، وكانت الأعراض التي قرأتها تشبه أعراضي تماما ، لذا قررت أن أتناول واحد من هذه الأدوية ، وخلال اسبوع كانت الأعراض العصبية التي أعاني منها قد بدأت في الاختفاء ، وبعد 4 سنوات تحولت الى دواء آخر مضاد للاكتئاب يتميز بقلة أعراضه الجانبية ، وهذه الأدوية غيرت حياتي وشفيت تماما كل الأعراض التي شكوت منها بما فيها آلام القولون . وتظهر الدراسات أن مضادات الاكتئاب فعالة في علاج بعض حالات الأوتيزم ، ولكن بجرعات صغيرة جدا ، وهي جرعات أقل من تلك الموصوفة لعلاج الاكتئاب ، حيث أن الجرعات الكبيرة يمكن أن تسبب الهياج ولعنف والاستثارة ، بينما الجرعات أقل من اللازم قد تكون غير فعالة . ويمكن أيضا استخدام مثبطات بيتا في السيطرة على السلوكيات العنيفة لمرضى الأوتيزم .
تحسن بطيء
خلال السنوات الثماني التي تناولت فيها مضادات الاكتئاب تحسنت باطراد في كلامي وتعاملي الاجتماعي وتوازني الجسدي ، وكان التحسن تدريجيا حتي انني لم أشعر به . وبالرغم من احساسي بالتحسن من العصبية والانفعال في الحال لكن الأمر تطلب بعض الوقت حتي تتحسن سلوكياتي . وفي العام الماضي كان لي فرصة لزيارة صديقة كانت تعرفني قبل تناول مضادات الاكتئاب ، وأخبرتني صديقتي أننى أصبحت شخصا مختلفا تماما ، أمشي بهدوء وقد اعتدل ظهري ، وتحسن التواصل بين عيوني وعيون الآخرين وأصبحت أجلس بطريقة أكثر هدوءا ، واندهشت أكثر عندما لاحظت انني لا أعاني من انقطاع أنفاسي طول الوقت وانني توقفت عن ابتلاع ريقي باستمرار . كما أخبرني آخرين أن طريقة كلامي أصبحت أكثر سهولة ووضوحا .
التاريخ المرضي للأسرة
هناك الكثير الذي يمكن تعلمه من التاريخ المرضي للأسرة ، فهناك أسر تحتوي على اضطرابات شعورية قد تكون لها صلة بالأوتيزم ، كما يمكن أن تكون بالأسرة حالات مواهب فنية أو قلق أو حالات خوف مرضية أو اكتئاب أو حساسية لأنواع من الطعام أو مشاكل في التعلم . وفي حالتي كان التاريخ المرضي لعائلتي يحتوي على عصبية وقلق من ناحية كل من والدي ووالدتي ، كما أصيبت جدتي باكتئاب خفيف تعالجت منه بمضادات الاكتئاب ، وكانت هي أيضا تعاني من حساسية مفرطة للأصوات العالية ، وكانت شقيقتي تعاني من الضجيج ، كما كان أبي يعاني من أعصاب منفلتة ، وانفعال زائد ، وحساسية لأنواع من الطعام . وكان كل جانب من عائلتي به بعض الأفراد من الفنانين . وظهرت أيضا أعراض لمشاكل في الجهاز المناعي أصابتني وأطفالي أيضا ، كما أصببت وأختي وأبي وأخي بمرض الاكزيما .
أعراض الحرمان الحسي
ان الحيوانات التي توضع في بيئة تمتنع فيها تماما عن تلقي أي احساس باللمس تتكون لديها عديد من أعراض الأوتيزم . كما أن الحيوانات التي لا تتلقي أي تلامس في صغرها لا تنمو أمخاخها بصورة طبيعية ، ويلاحظ الباحثين أن أطفال الأوتيزم يتملصون من اللمس والاحتضان ويرفضونه ، ولعل هذا يفسر حال العصبية والانفعال التي يصلون اليها مع تقدمهم في العمر ، ويقرر العلماء أن الأطفال الذين يرفضون اللمس والاحتضان يمكن أن يتقبلوا هذه الممارسات اذا ما تم تدريب جلودهم على التقليل من حساسيتها للمس عن طريق تدليك الجلدالمستمر ، والضغط المستمر حتي تقل رغبة الطفل في التملص بعيدا .
ومؤخرا ظهر ما يسمى بالعلاج بالاحتضان ، حيث يتم احتضان طفل الأوتيزم بقوة حتى يهدأ ويتوقف عن المقاومة . ويقرر بعض الآباء أن احتضان الطفل بطريقة أكثر هدوءا قد يقوده الى تحسن التواصل عن طريق العيون ، كما يحسن اللغة والتفاعل الاجتماعي .
لقاء مع الدكتورة تمبل جراندين
وفي حديث مع أحد المواقع الطبية الشهيرة على الانترنت Medscape.com أجابت الدكتورة تمبل جراندين أستاذ علم الحيوان المساعد في جامعة كلورادو على أسئلة المحرر الطبي للموقع وجاء الحوار كالتالي :
– في واحد من مقالاتك كتبت ، "يحتاج المدرسون الى استعمال التعلق لحفز الأطفال بدلا من استعمال الطرق نفسها مع كل طفل" ماذا سيحقق هذا بالنسبة للأطفال المتوحدين ؟
* سأستخدم مثالا لشرح وجهة نظرى .. عندما يتعلق الطفل بالقطارات سنقرأ له كتابا عن القطارات ، وسنستخدم القطارات في حل مسائل الحساب ، كما سنقرأ له كتابا في تاريخ السكك الحديدية . بمعنى آخر اذا كان الطفل يحب القطارات سنضع القطار له في كل موضوع في المدرسة حتى نحفزه على الدراسة . ان التركيز شيء هائل لتحفيز الطفل ، انظر الى شخص مثل مدام كوري التي اكتشفت الراديوم ، كانت بالقطع متعلقة بما كانت تفعله ، وبقليل من التعلق سيتم فعل الكثير .
– كتبت في مقالاتك " كنت أصرخ لأن هذه كانت الطريقة الوحيدة للتواصل" اشرحي هذه التجربة التي مررت بها في طفولتك .
* كان هذا وأنا صغيرة جدا ، وأنا أذكر اننى كنت أرفض ارتداء القبعة ، لذا كنت أصرخ وألقيها على أرضية السيارة ، وكانت امي تأمرني وتقول "أعيديها على رأسك" لكني استمريت في الصراخ ثم ألقيت القبعة من النافذة . ان عدم القدرة على التواصل يصيب الانسان باحباط هائل . وعندما يصاب الطفل بمشكلة سلوكية خصوصا عندما لا يكون قادرا على النطق يجب عليك أن تحاولي ايجاد السبب في ذلك . هل هذا الغضب بسبب عدم القدرة على التواصل ؟ ومشكلة اخرى قد تكون التحسس العصبي ، وهذا شيء دائما ما يتم تجاهله ، فقد تلاحظ أن في كل مرة تأخذ الطفل الى السوبرماركت يظل يصرخ ، ان السبب يكون في أضواء الفلورسنت التي تلمع في عينيه وتصيبه بالجنون ، والضجة الموجودة في المكان أيضا تضايق أذنيه ، وأيضا الروائح تملأ أنفه . ان السوبر ماركت وقتها يكون مثل أن تجلس بداخل سماعات ضخمة تبث الضجيج طول الوقت . وأيضا عندما يكون طفلك غير قادر على الكلام وفجأة يصاب بمشكلة سلوكية ابحثي عن السبب جيدا ، فقد يكون يعاني من حالة مرضية لم تشخص لديه بعد مثل حموضة المعدة مثلا . وقد يصرخ الأطفال بسبب رغبتهم في التوقف عن عمل شيء ما أو بسبب رغبتهم في الحصول على انتباه ذويهم .
– بالنظر الى تاريخك الشخصي مع مشاكل التواصل ، كتبت " ان أخصائية التخاطب كان أهم شخص في حياتي" .. لماذا قلت ذلك ؟
* لأنها جعلتني أتكلم . لقد بدأت العمل معي عندما كنت في الثانية والنصف من عمري ، وعندما بلغت الثالثة استأجرت أمي مربية لتقضي معي الساعات في اللعب معي ، وأنا أستطيع تذكر أنه بعد الغذاء كان لدي فترة للراحة أعود فيها لممارسة أعراض الأوتيزم فأمضغ طرف السجادة ، أو أهيل الرمل على رأسي ، وأتذكر اننى كنت أشعر أننى منومة وأنا أفعل ذلك . ولو كان أهلي قد تركوني أفعل ذلك طوال النهار لما كنت هنا الآن . أنا مؤمنة تماما بأهمية التدخل المكثف في حياة الأطفال الصغار ، يجب أن نجعلهم يتكلمون بقدر الامكان ، وأن يتفاعلوا من الناس ، وأعتقد أن التفاعل الاجتماعي عن طريق ارسال الطفل الى المدرسة هو شيء مهم للغاية . ولكن في سن المراهقة يجب أن نبعد الطفل عن أتون الضغط الاجتماعي .
– نشرت مجلة "نيويورك تايمز" مؤخرا قصة عن الصراعات التي تحدث مع المصابين بالأوتيزم ، حيث يرفض بعضهم أي علاج وأيضا يرفضون والديهم .
* قرأت هذه الأشياء وهذه الصراعات عن العلاج المسمى "تحليل السلوكيات التطبيقي" ، وهي تقنيات مخصصة للأطفال الصغر جدا بين سنتين وخمس سنوات لكي يبدأوا تعلم اللغة ، ولكنها ليس للأطفال الأكبر سنا (8-9 سنوات) ، ومعظم أفراد المجموعة يعانون من مرض "اسبرجر" Asperger’s syndrome الأقل ضررا . نحن نحتاج الى التعامل مع مواهب هؤلاء الأطفال حتى ينمو ويكون لهم وظائف يعولون بها أنفسهم . وأنا أعتقد فعلا أن هناك نسبة كبيرة من هؤلاء الأطفال الذين يجب أن يذهبوا الى الجامعة وأن يتعاملوا مع مثقفين من مستواهم ، كما يجب أن يتفادوا مشاكل سن المراهقة لأنها لا تمنحهم أي نوع من المهارات ، وهذه الفترة كانت الأسوأ في حياتي ، وأنا أحمد الله أن العمل من المراهقين لا يشكل جزءا من عملى !
– هل كان يمكن أن تكوني ما أنت عليه الآن لو لم تكون طفلة متوحدة ؟
* لا أعتقد هذا ، لأني كنت أمتلك حافزا لم يكن غير المتوحدين يمتلكونه . وكان عندي بصيرة داخلية وقدرة على التخيل بصورة أكبر من كثيرين . وعندما وضعت تصميما لجهاز معين كان عندي القدرة بالفعل على اختبار هذا الجهاز داخل عقلي كما يحدث في الذاكرة التخيلية للكمبيوتر ، ولم أكن أعرف وقتها أن الناس الآخرين لا يستطيعون فعل نفس الشيء ، وهذا جانب ايجابي في الأوتيزم ، ولكن اذا كان لديك طفل لا يتكلم ولم يتدرب على استعمال التواليت بعد فهذا هو الجانب السلبي من الأوتيزم ، وهذه سلسلة مستمرة من اينشتين الذي كان يعاني من مرض اسبرجر حتى الأطفال الذين لا يتكلمون ولم يتدربوا بعد على استعمال التواليت .
– حدثينا عن علاقة الأطباء بمرضى الأوتيزم ، كل كنت تحت رعاية طبيب ؟ وكيف تقيمين درجة الرعاية التي كنت تتلقينها ؟
* عندما كنت صغيرة كنت أتعامل مع طبيب نفسي ، وكان وقتها بالطبع يتبع المدرسة الفرويدية (مدرسة التحليل النفسي) ، وكان يريد أن يجد اصابة ما في نفسيتي ، وهو ما نعرف الآن أنه اتجاه خاطيء تماما في التفكير ، وأعتقد أنه ساعد أمي أكثر مما ساعدني ، والحقيقة أنه لم يؤثر في حالتي الا بقدر ضئيل جدا . وأهم شخص في حياتي عندما كبرت كان مستر كارلوك وهو مدرس العلوم ، كما كان لخالتي تأثير كبير ، حيث أنها احتملت رغبتي في التعلق بشيء ما أكثر مما حاولت أن تخلصني منها . ولقد استعمل مستر كارلوك هذا التعلق ليساعدني على تعلم العلوم ، ولسوء الحظ انني عند التحاقي بالمدرسة الثانوية كان المحترفين من أمثال اخصائية علم النفس يحاولون أن يخلصوني من تعلقي بالماشية ، بالرغم من أن هذا التعلق هو الذي قادني الى التخصص في علم الحيوان ، وأحب أن أشير الى أننى مخترعة الآلة التي يمر عليها نصف ماشية هذا البلد عندما تتوجه الى المذبح . وفي نظري هذا شيء جيد جدا يمكن أن نستفيد به من موضوع تعلق المصاب بالأوتيزم بفكرة أي شيء ما . كانت رغبة المحترفين فقط هي ازاحة هذا التعلق واغلاق موضوعه تماما .
– ما الذي يجب أن يضعه الأطباء والمتخصصين في علم النفس في أذهانهم عند التعامل من الأطفال والكبار المصابين بالأوتيزم ؟
* أولا ، يجب أن ننظر الى مستوى الأداء لأن ما هو مناسب لطفل غير متكلم مختلف تماما لحالة تعاني من درجة بسيطة من الأوتيزم . يجب أن يتعلموا مهارات اجتماعية مع التركيز أيضا على المهارات المهنية . وأنا حصلت على مهارات اجتماعية من خلال الاهتمامات المشتركة خلال العمل ، مثل الحديث عن كيفية بناء شيء ما أو حل مشكلة ما في سلوك الحيوان ، وهذا هو الشيء المهم بالنسبة لي وليس مجرد الدردشة الاجتماعية . نعم نحتاج الى تعلم مهارات التعايش الاجتماعي ، وواحدة من هذه الأشياء التي تعلمتها أنك لا تستطيع أن تتخلص من الناس أو تتهمهم بالغباء ، ولقد فقدت وظيفتي في بداية عملي بسبب مثل هذا .
– أنت تتناولين جرعة منخفضة من مضاد للاكتئاب لمدة عشرين عاما ، هل يمكن أن تصفين كيف وصلت الى هذا وكيف ساعدك هذا الدواء ؟
* عندما بلغت أواسط العشرينيات من عمري هاجمتنى نوبات من القلق والخوف بصورة متزايدة ، بحيث أصبت بحالة مستمرة من الخوف . وكنت قد قرأت في مجلة نفسية عن تأثير الطب النفسي الحيوي ، وكان هذا في نهاية حقبة السبعينيات ، وتحدث المقال من مضادات الاكتئاب كعلاج لنوبات الخوف وساعتها شعرت أن هذا العلاج موصوف لي ، ومن وقتها بدأت في تناول مضاد للاكتئاب بعدما تحدثت الى طبيب الأسرة وخلال ثلاثة أيام كان القلق قد اختفى كما لو كان الدواء سحرا . وفي اجتماعاتي من مرضي الأوتيزم يخبرني كثير من الأباء والأمهات أن أبنائهم تناولوا جرعات ضئلة من مضادات الاكتئاب وتحسنوا ، وبعد اعطائهم جرعات أكبر كان نشاطهم يتزايد بدرجة كبيرة حتى أنهم لا يستطيعون النوم . وفي رأيي أن مرضى الأوتيزم يحتاجون جرعات ضئيلة من مضادات الاكتئاب أكثر من الناس غير المصابين بالأوتيزم . ومن المهم هنا الاشارة الى أن الضغط الجسدي على أطفال الأوتيزم يساعدهم على الاسترخاء والنوم ، واستخدام بطانيات ثقيلة الوزن عليهم أثناء استعدادهم للنوم يساعدهم على الاستغراق فيه .