غابة برية غير مستأنسة .. محمية طبيعية .. ممنوع قطع الأغصان .. ممنوع قطف الأزهار .. ممنوع تشذيب الحشائش .. ممنوع اصطياد الحيوانات والطيور .. ممنوع اطعامها .. تمتع بكل شي كما هو .. لا تأخذ شيئا .. لا تترك شيئا .. الهواء نظيف .. الأكسجين متوافر ..الخضرة منعشة .. تنتعش روحي معها .. وتجرى الطاقة في عروقي .. لا أعرف هل أنا أمشي على الأرض أم أطير في الهواء .. p>
تمر السنون ، وأزور محمية طبيعية أخرى ، رأس محمد في أقصي طرف جنوب سيناء .. تطل على البحر الأحمر ، ممنوع تحريك الصخور ، ممنوع اتلاف الشعب المرجانية ، ممنوع اطعام الأسماك ، ممنوع التعامل مع الحيوانات ، ممنوع الصيد ، لا تأخذ شيئا ، لا تترك شيئا ، جمال المكان هو في الاعتراف بكل ما فيه ، لا تغير فيه شيئا ، لا تجمله ، لا تزخرفه ، جماله في أن يكون طبيعيا ، كما هو ..
أرتد داخل نفسي وقد أحسست تشابها فائقا بين المحمية الطبيعية وبين النفس البشرية ، أو ما يجب أن يكون في النفس البشرية ، نفس الانسان هي مركز الكون ومحوره ، وينتهي العالم بالنسبة لأي انسان بنهايته هو ، فماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه ؟
في البدايات .. مع انتباه الانسان لذاته ، في مراحل عمره المبكرة يدرك أنه يجب أن يتقولب في صورة معينة ، وأنه يجب أن يكون حسب هذه الصورة التي تنتظرها عيون الناس ، ويكبر الانسان وهو يحارب في سبيل تجميل هذه الصورة ، أو في سبيل تلبس هذه الصورة المنتظرة منه ، وينجح مرات ، ويفشل مرات ، ولكنه في النهاية يكون كالشجرة المشذبة أو كالحيوان المستأنس أو كالطائر المدجن ، انسان مثالي كما يجب أن يراه الناس، لكنه يفقد ذاته الأصيلة .
ولكن فكرة المحمية الطبيعية أثارت خيالي ، فرحت أبحث في النفس عن كل ما هو طبيعي فيها، قررت شيئا .. أن أتعامل مع نفسي كمحمية طبيعية ، أترك كل شيء لحاله ، لا أكذب ، لا أتجمل ، لا تأخذ شيئا ، لا تترك شيئا ..
رأيت في النفس حمائم رقيقة تحلق في السماء .. قررت أن أتركها بدون أن أحبسها في أقفاص أو أبراج ، حمائم تنشد السلام ، و الهدوء ، لكنها تغضب بشدة بعد استفزاز طويل ، كما رأيت صقورا حرة تحلق على ارتفاعات شاهقة ، ثم تهوي على أرنب هنا أو فأر هناك ، عصبية ، غضوبة ، مفترسة ، لكنها تحلق في دعة فاردة أجنحة الاسترخاء ، تركتها تفعل ما تشاء ، يتعارض ما تفعله مع تصرف الحمائم ولكنها موجودة معها ، لها نفس الحقوق في البقاء مثلها في محمية النفس الطبيعية ، ويجب أن تظل هناك ..
رأيت صخورا وعرة تسد الطرق ، قررت عدم ازالتها أو تحريكها ، يمكن الالتفاف حولها مع الاعتراف الكامل بوجودها ، لا تأخذ شيئا .. وفي محمية النفس الطبيعية رأيت حيوانات برية تأكل الحشائش ولا تؤذي ، ثم تؤدي دورها طعاما لحيوانات مفترسة ستموت جوعا لو لم تأكلها ، دورة طبيعية للحياة ، التضحية بشيء لكى يحيا شيء آخر ..
رأيت في محمية النفس حملانا كانت دائما في مقدمة الصورة ، حتى أن كل من يعرفوني كانوا لا يعرفون من دواخلي الا هذه الحملان الوديعة ، هم أحبوها ، وأنا أحببت أن تكون ظاهرة دائما أمامهم حتي يستمتعوا بها ، وحاولت جهدي ألا تظهر اية مخلوقات أخرى ، حملان فقط ، وحمائم ، طاردت الصقور والنسور بعيدا ، كما انني لم أعترف بوجود حيوانات مفترسة في محمية النفس الطبيعية .
في داخل محمية النفس الطبيعية سمعت عواء ذئب .. لطالما سمعت صوته رغم أني حاولت كثيرا عدم الاعتراف بوجوده، منذ الطفولة أعرفه، أنكرت وجوده ، بل وحاولت اصطياده ووضعه في قفص ، ومرات عديدة حاولت قتله ، لماذا ؟ وقتها كنت أبرر لنفسي .. كيف يمكن أن يكون في نفسي مكانا لذئب ، وأنا الذي يراه الناس في صورة الحمل ؟ وأنا الحريص على ابقاء نفسي في الصورة التي أرادها لي الناس ، صورة الحمامة وليس الصقر ، الحمل وليس الذئب ، آه يا ذئبي الجميل .. سأطبق عليك الآن قوانين المحمية الطبيعية ، لن أقتلك أو أضعك في قفص ، سأحبك كما أحب الحملان والأرانب ، لك كل الحق في الحياة في هذه المحمية الطبيعية ، فقط سأكتب تحذيرا بعدم التعرض لك ..
كما سأعطي الحريةأيضا للثعالب الصغيرة التي تعيش في محمية النفس ، سأحذرها ، ولكني لن أتخلص منها، لا تأخذ شيئا .. لا تترك شيئا ..
المرارة والاحباطات اليومية.. سأحتفظ بها في كيس مهملات أتخلص منه في آخر النهار ، ولكني لن أبعثرها في محمية النفس ، دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفسا اذا حتم القضاء ، لا تأخذ شيئا .. لا تترك شيئا.. أغمض عيني قبل النوم وأتخيل الرمال الناعمة الممتدة على شاطيء البحر ، أكتب عليها متاعبي ، ثم أراقب البحر يهدهدها بأمواجه الناعمة فيمحو ماسطرته ويعود الرمل جديدا كما كان منذ الأزل . أخلص محميتي مما يعكر صفوها ، ثم أنام وأترك الباقي لعقلي الباطن غارقا في أحلامه السعيدة ..
محمية النفس مليئة بالزنابق الجميلة التي ترتدي حللا ولا أبهي الملوك ، لم تهتم هذه الزنابق لغدها ماذا تأكل أو ماذا تلبس ، تماما مثل الحمل والذئب فهما لا يهتمان بلباس أو طعام ، فلماذا أضع الهموم على كاهل النفس ؟ ، لا تترك شيئا .. من الهم .. لا تأخذ شيئا .. من القلق .
تشرق الشمس على النفس ثم تغرب ، ثم تشرق .. لا ناقة لنا في هذا ولا جمل ، أنام ملء جفوني عن شواردها ، لا تأخذ شيئا .. لا تترك شيئا ..
هناك زهرة جميلة رائعة المنظر ، لها أريج الشاي المعطر ، نمت في غير توقع ، وفي غير موسم ، فكرت في قطفها ، ثم أدركت أن موقعها في حبة القلب . تركتها حسب قوانين المحمية .. لا تأخذ شيئا .. لا تترك شيئا..
هنيئا لمن لا يدين نفسه على فعل شيء يحبه ، هنيئا لمن يرضى عن نفسه ، هنيئا لمن يعتز بكل ما هو موجود وطبيعي وكائن في نفسه ، هنيئا لمن يكون كما هو كائن ، ليس كما يريده الأخرون أن يكون .