الجو صيفي مشتعل .. وقد جثم الحر بأنفاسه الساخنة على الدنيا .. تلتفت ربة البيت الى زوجها وتسأله بزهق : ” أطبخ لكم ايه النهاردة ؟ ” .. يجيبها نفس الاجابة التي اعتادها على مر سنين عمر زواجهما : “أنا عارف بأه ؟ أي حاجة ” .. ترد الزوجة وهي منقطعة الأنفاس من الحر : ” أحسن حاجة ناكل النهاردة جبنة وبطيخ ” .. يجبها الزوج : “والله فكرة كويسة” . وهكذا .. يكون الغذاء جبن وبطيخ ، وقد يكون جبن وعنب .
ورغم شيوع هذه الوجبة الصيفية الجميلة لأجيال وأجيال فقد هاجمها البعض دون علم أو دراية بحجة أنها تهدد الرشاقة ! فهل هي وجبة ضارة وغير صحية ويجب الامتناع عنها أم أنها وجبة صحية مطلوبة ؟
يبحث الجسد عن احتياجاته الحيوية ويحددها ، فيجد الانسان نفسه وقد استبدت في نفسه رغبة لتناول طعام ما ، دون أن يعرف لماذا يشتاق لهذا النوع من الطعام ، ولكنها حكمة الجسد .. ولاتقتصر هذه الحكمة على الانسان فقط بل انها تمتد للطيور والحيوانات بل والنباتات أيضا . فقد تلعق الحيوانات في الزرائب الحوائط لأن جسمها يحتاج لبعض المواد مثل الصوديوم والكالسيوم ، كما ان بعض الحوامل في المجتمعات البدائية قد يأكلن الطوب والطين في محاولة لامداد الجسم بمادة الكالسيوم التي يحتاج اليها دون معرفة السبب ، فقط تشعر الحامل برغبة في القيام بهذا العمل ، وهو ما يسمى عادة بالوحم .وتنقر الطيور في الأحجار الجيرية طلبا للكالسيوم ، وتمد النباتات سيقانها وأوراقها وجذورها الى مناطق الضوء وأملاح التربة ومناطق الرطوبة فيها لتأمين احتياجاتها من العناصر المختلفة المطلوبة لنموها.
وفي الغابة ، عندما يصاب حيوان الغوريللا بجرح خطير فانه يتوقف عن الأكل ويروح يبحث عن نبات معين في الغابة حيث يقتطع منه أوراقا يمضغها ، ويخلد للراحة في مكان ظليل قريب من الماء حيث يكتفي بالشرب فقط حتي يبرأ من جرحه . وعندما قام العلماء بدراسة هذا النبات اكتشفوا أن له خواصا تساعد في سرعة شفاء والتئام الجروح . وهذه الخواص لم يدرسها الغوريللا في الجامعة ، ولكنها حكمة الجسد ، ومنها تعلم البشر أيضا في تلك المناطق استعمال نفس النباتات في الاستشفاء والعلاج.
هي حكمة الجسد أيضا التي تدفع الانسان للتفكير في الجبن والبطيخ أو العنب كوجبة مناسبة لأيام الصيف الحارة ، فما هو التفسير ؟
ترتفع درجة حرارة الجو في الصيف ، وقد تتعدي الخمسين درجة مئوية ، ولكن درجة حرارة الجسم يجب أن تظل في حدود ال 37 درجة وهي درجة حرارته الطبيعية والا تعرض الجسم وأعضائه للخطر والتدمير . فماذا يفعل الجسم ؟ يلجأ الجسم لظاهرة افراز العرق التي نلاحظها كلنا بالطبع في فصل الصيف ، ويتكون العرق أساسا من الماء والملح (كلوريد الصوديوم) ، وتخرج كميات هائلة من العرق لكي تنظم درجة حرارة الجسم قد تصل الى لترين ونصف في الساعة أي ما يقترب من عشرة أكواب ، حيث يتبخر العرق من على سطح الجلد فيبرد الجسم ويتم الحفاظ على درجة الحرارة الطبيعية . وبالطبع فان الانسان يحاول تعويض هذه السوائل التي تم فقدها في العرق فيكثر من شرب السوائل وأهمها الماء ثم المشروبات بأنواعها مثل العصائر والمشروبات الغازية والشاي والقهوة وكل ما يظهر في صورة سائلة أو غنية بالماء . كما يلجأ الانسان لمحاولة تخفيف درجة الحرارة بالاحتماء بالأماكن الظليلة اذا كان في العراء أو استخدام المراوح ومكيفات الهواء في الأماكن المغلقة.
ولكن العرق الذي يفرزه الجسم للتبريد يتكون من الماء والملح ، ويحاول الانسان تعويضه بالماء والسوائل فقط ، مما قد يعرض الجسم لخطر صحي مؤكد ، يظهر في حالة لاعبي الكرة عندما يلعبون في الصيف فيفقدون كميات هائلة من العرق، يتم محاولة استعواضها بشرب الماء ، فنجد اللاعب يقع في الملعب وقد تقلصت عضلاته نتيجة نقص الملح في الجسم ، وهي حالة يمكن تسميتها بتسمم الماء ، أي بوجود الماء في الجسم بدون كمية الملح المناسبة .
وهنا تظهر حكمة الجسم ، في محاولة لموائمة حالته مع درجة حرارة الجو ، فلا يميل الانسان الى أكل اللحوم صيفا حيث أنها من المواد الرافعة لدرجة حرارة الجسم ، وهذا شيء لايحتاجه الجسم صيفا ، فيشعر الانسان بعدم الرغبة في تناول اللحوم والدواجن والأسماك ، بل يميل الى المأكولات التي تحتوي على مواد بسيطة الهضم مثل الأحماض الأمينية وتكون أيضا غنية بالملح لكي يتم تعويض الجسم عما فقده في العرق ، وحتى يتكامل هذا الملح مع كمية الماء التي يتم شربها تعويضا عن المفقود في العرق . وهنا تظهر أهمية طعام مثل الجبن الأبيض المملح وهو طعام غني بالأحماض الأمينية البسيطة ، كما أن يحتوى على الملح المطلوب بشدة من الجسم في فصل الصيف حيث العرق الغزير (اقرأ المزيد عن الماء والرشاقة).
ما سبق يفسر رغبة الجسم في تناول الجبن الأبيض المالح في الصيف ، فماذا عن تناوله مع البطيخ أو العنب بالذات ؟ .. هنا تظهر حكمة الجسد في أرقى وأبهى صورها ، ذلك أن عملية امتصاص الصوديوم (ملح الطعام هو كلوريد الصوديوم) لا يمكن أن تتم في الأمعاء الا في وجود مادة الجلوكوز وهي الموجودة في البطيخ والعنب ، وأيضا في وجود الأحماض الأمينية وهو موجودة في الجبن .. اذن فان هذه الوجبة العبقرية وهي الجبن والبطيخ تحتوي على صوديوم وأحماض أمينية وسكريات وهي مواد وجودها معا ضروري لامتصاص الصوديوم الذي يجب تناول كميات مناسبة منه في فصل الصيف لتعويض الفاقد في العرق .. وهكذا تحدث المعجزة البيولوجية التي تتم برغبة من الجسد وتوجيه منه وبدون محاضرات وتعليم .. فهل تكفي هذه السطور للرد على من يهاجمون هذه الوجبة الصيفية الصحية العبقرية بدون علم أو دراية ؟
وفي علم “الحياة العظيمة” المعروف عالميا باسم “الماكروبيوتيك” ينصح في جو الصيف الحار (يانج) بتناول طعام خفيف من الفاكهة كثيرة الماء (ين) ومنتجات الألبان والحبوب ، مع الابتعاد عن الأطعمة الحيوانية التي تصيب الانسان بالتوتر والانقباض اذا تناولها في الصيف ، والتي يستحسن تناولها في الجو البارد . وهذا تأكيد آخر من علم يتزايد في الانتشار يوما بعد يوم بأهمية تناول الفاكهة والجبن مع الخبز ، حيث لا يمكن بالطبع تناول الجبن والبطيخ بدون الخبز ، فهل يهدد هذا الطعام الرشاقة في فصل الصيف؟
ان وجود السكريات البسيطة في البطيخ يساعد على رفع معدل السكر في الدم بسرعة مما يؤدي الى الاحساس بالشبع حتى قبل امتلاء المعدة بالطعام ، كما أن محتوى البطيخ المائي الكبير يجعل كمية السعرات الحرارية الموجودة فيه قليلة نسبيا ، وبالتالي فان تناول وجبة الجبن والبطيخ بكمية معتدلة هوأكثر ما يناسب الجو الحار في الصيف .
وبالرغم من الاثباتات العلمية المذكورة في هذا المقال لكن الفضل في اكتشاف هذه الوجبة الصيفية البسيطة والرائعة لا يعود الى العلم ، بل الى حكمة الجسد وتوجهه التلقائي لاستيفاء حاجاته البيولوجية اللازمة لاعضائه المختلفة للقيام بوظائفها ، فهل ننصت اليه ونحترم احتياجاته مع التوقف عن الهجوم على رغباته “على الفاضي والمليان”؟